من أنا لولا الذكريات

الحالة

في هذه الأيام لا اختلف كثيرًا عن الماضي، بطبعي وفيٌّ للذكريات، وأحب النصف الآخر من يومي أكثر من أوله؛ ليس كرهًا ولا حبًا، بل انعتاقًا من أشياء كثيرة.

عودًا على ذي بدء، الحياة اليومية بحاجة ماسّة إلى السيطرة وإعادة جدولتها بشكلٍ دوري؛ حتى لا تفقد نفسك في وسط هذا التحرك الكبير من حولك. وربما مررنا على كثيرٍ من الشخصيات في حياتنا، أكانت عبر القراءات أو من خلال الأعمال السينمائية. تلك الحيوات التي لا تختلف عنا أبدًا، في بداية يومها أو نصفه الآخر. الجميع يبحث عن تلك الأشياء التي تعينه وتعنيه. من ذكريات وهوايات، وحتى أشياء لا تصنّف ضمن الأمور التي أضحى الجميع متشابهون فيها.

هذه المرة لست خلف المقود ولا الواقع أيضًا، ولا حتى قريبًا من أولئك الذين تتعالى أصواتهم معي وأنا أطيل النظر من خلال النافذة. ولا أذكر أنني كنت في مركبةٍ أم غير ذلك إلّا عندما صرخوا علي وقالوا: ها نحن قد وصلنا. وتلك العادة لا تفارق الذين ولجوا فيها دون إرادتهم، ورأوا فيها الجزء الأجمل من الحكاية، أكانت ذكرى انتهت، أم مستقبلًا في حاضرًا يقالُ له يقظة، تجدهم في غياهب الخيالات، وقد احتوت أيديهم أيادي من أحبوا، وطالت أصوات الأحاديث، وبانت النواجذ من كثرة الضحك.

كان المشوار قصيرًا في مدينة محببة، على خلاف تلك المشاوير أو الرحلات التي لا رغبة في بدئها، بيد أنّها إلزامية لهذه الحياة. اختلطت ألوان السماء، والليل على وشك الهبوط؛ ليواري بذلك الغروب الذي يعقب الشفق. لا شيء في الليالي الممطرة سوى الشاعرية والأحاديث، وربما أكثر من ذلك أو أقل، وللناس طقوسهم التي يفضلونها، وللآخرين حياتهم التي يتحتّم عليهم فيها أن يراعوا أشياء كثيرة عقب المطر، كأن يراعوا الموازيب وحطبهم وحيواناتهم في القرية، وتختلف الكائنات بشكلٍ عام في كيفية التعاطي مع المطر وما بعده.

اعتدت كغيري وربما الكثيرين، أن أزاحم أقراني على المكان القصي في السيارة، النافذة التي من خلالها أتأمل المشهد، ذلك الشاعري الذي قد يُبتذل عند الغير، ويفضل عند الآخرين، لكنه بالنسبة لي لا يختلف عن كونه قصيدة أحب المراقبة من ثناياها إن صحّ التعبير، لأشاهد الأرض، زرقة البحر، اخضرار ويباس الشجر، تبدل الفصول، الأيادي الملوّحة للوداع أو السلام، وربما طلبًا في توصيلة، متابعة سنابل الحقول الكثيفة، الذكريات، نعم الذكريات، لكن لاحقا لا أتى ذلك عندما تغير الرقم العمري الذي لم يأتي وحده، بل أتى بصفات وتغيراتٍ كثيرة، ممتنٌ لأشياء كثيرة وأهمها العزوف عن كل الأشياء المليئة بالوهم وكذلك عن الأشخاص، رفاق الوهم واللحظة في الواقع، الذين تستطيع التواصل معهم بعينيك. عودةً على ذي بدء، لا شيء أثقل من العودة لذات الأماكن التي كانت يومًا هي الحياة والمعنى بالنسبة لك.

أن أجلس مرةً أخرى بجانب النافذة التي من خلالها عشتُ الخيالات والتصورات، وعدتُ للماضي وتجاوزت الزمن وسرعة السيارة. كنت للتو قد سمعتُ قصيدة محمود درويش “لاعب النرد” واستوقفتني تلك الأفعال التي نثرها في القصيدة وكأنها صوتي وأنا اطيل النظر من النافذة لأرى حياتي ومراحلي، ويداي الضعيفة في يدا أبي القوية، لينقلب الحال بيننا، وأرى تقوقعي في أيامي الدراسية الأوَل، والكلمات الرنانة في صغري، فلسطين، المسجد، المدرسة، جدّاي، جدتي التي فقدتها، الطفولة والرهبة من الناس وكل جديد، الابن البكر، الناس الجدد. أكبُر قليلا، اسمع عن مصطفى محمود، رواية العنكبوت، عشرون ألف فرسخ تحت الماء. أشاهدني من النافذة، كرة القدم في الحي، زفافٌ في حوش الجيران، وجهي في المرآة، الأستاذ الذي صفعني، الملك عبدالله في حفل أضعت فيه عقالي، أتذكر وأتذكر وأنا على النافذة، أُبكي الطفولة وحياتي وأنا في الماضي؛ لم اقوى على الاستسلام للحاضر والتكييف فيه، الاستئياد للحياة، الخروج للشارع، هدف زيدان في نهائي كأس العالم 1998، هذه اللحظة الأولى في كرة القدم بالنسبة لشخص نشأ بين عوالم غيبتها الصحوة.

أسحب رأسي للوراء، أتأمل دموعي في مرآة النافذة، أنفاسٌ متراكمة، لكنني وحدي، لا أدرك إن كنتُ على نافذة سيارة أم منزل، لا أجرؤ على الاقتراب أكثر، رأيت ما يكفي مني، لكنني لم أصل بعدُ إلى ما أريد. وقد دأبتُ حديثا على إيجاد الوقت الذي لا أحد فيه سواي؛ لأعيد المشهد الذي كنت فيه ولم أعد قليلة هي المرات التي استمع فيها للأغاني في السفر، المرات الأخيرة كانت للاستماع لقناة جميل الرويلي. لكن المرات التي لا استمع فيها إلى شيء، لا يهدأ عقلي، يعيد علي كل شيء وأنا أتأمل من نافذة للطريق الذي لا أعبر به إلى وجهتي في المستقبل، بل أعود من حاضري إلى الماضي، معنويا وماديا. أتحدث مع نفسي عن كل شيء لمحه عقلي ولم يكلّف نفسه بالبحث أكثر، حتى وإن كانت كلمةً واحدة، لا يلفظها جسمي بما فيه، الكتاب الأول الذي رأيته ورأيت صوره وبعض كلماته، عندما سألت عنه كان ألف ليلة وليلة، ومن حسن حظك أن تجد كتبا عند أسلافك، أعادتني ذاكرتي وأنا في حالة اطمئنان لأغنيةٍ اعتبرها الأولى التي سمعتها وبقي منها “إني أتنفس تحت الماء”. لا أنكر حبي لتلك الذكريات، لكن أتجنب مساؤها قدر الإمكان. يقول درويش: “أمشي، أهرول، أركضُ، أصعدُ، أنزل، أصرخ، إلخ”. كل ذلك كان من خلال نافذة رجعت للماضي، ووصلت المستقبل، من وقود حاضري، من خيالات وشخصيات الذين قرأتهم ولم أرهم.

بعض الذكريات يحفزها الصمت والارتماء على الأريكة في المنزل، والعودة لتلك الأماكن التي كان بداية الشرارة منها

تقول أم كلثوم في أغنية ذكريات عام 1955 عن الذكريات “كيف أنساها وقلبي لم يزل يسكن جنبي، إنها قصة حبي”.

لونٌ أخضر

الحالة

أحياناً تشابه الأيام يكون نعمة، وربما كان العكس. أحدهم قال لي قبل فترةٍ طويلة: “لا أقرأ في إلّا أيام الحزن، أما في الفرح؛ فأنني امتنع عن كل شيء حتى انغمس في اللحظة”.

هذا الطريق، طريق حياتي. رأيت شيئًا منه عندما قرأت ذلك العمل الذي ذُكر فيه الكثير من تلك الأشياء التي تشبهني في الماضي، وأيضًا في حاضري. سابقًا كما فعلت، وحاليًا مثل ما هو في ذاكرتي. ذلك الشيء كان من رواية “رأيت النخل” لرضوى عاشور. ونحن نشبه أشياؤنا أو ما نهوى، بصورةٍ ملحوظة أو لا. في الصمت نريد شحَّ الكلمات، والليل نريد منه سكنًا أكثر، والشجرة ربما لا تعرفنا أكثر، لكننا نحاول أن نكون معطاءون كالنخلة، شامخون كالسرو.

في بعض نصوص رضوى وجدتني وسط الحقول متأملًا كل تلك اللحظات التي هي جزءٌ من حكاية، كنتُ أنا العابر فيها. “مرةً واحدة رأيت النخل غابةً في السحر، ولم تكن الشمس قد اشرقت بعد ولكنها كانت على وشك، فتخضّب الأفق البنفسجي بلون الحناء. رأيت النخيل مستقيم القد، شاهق الطول، ورأيت وجوه أهلي فيه، أبي وأمي وعمتي وابن عمي. كانت وجوههم خضراء شاحبة بلون السعف ولكني لم أتحقق أن كانوا يقفون خلف الجذوع أم كانت الجذوع خلفهم.

وسمعت صوتا رخيماً ودافئاً كأنه صوت مقرىء يتلو الآيات قبل أذان الفجر، أو كأنه شيءٌ آخر، لاأدري؟ ولكن الصوت كان يتردد في غابة النخيل ساعة السحر فقلت لنفسي: ” أنت يافوزية على الأعتاب فتهيئي” ولكني صحوت، فتحت عيني فلم أجد سوى الصورة المعلقة على الجدار القديم فعرفت أنه كان حلما فانسكبت من عيني دمعة ثم استجمعت نفسي وقمت”.

وقفة

لا أريد أن أبالغ في حبي للأشياء، ولكني عندما أجد هذه النفس في كلمات أحدهم، أيًّا كان، أحفظ ذلك الشيء في قلبي وأردّده واتّخذه شعارًا في حياتي. إذًا نحن نبحث عن كل ما نحب، لنعطيه ذلك الشعور الذي يستحق، ولو كانت بضعُ كلمات. أريد أن أركض خلف تلك الأشياء التي تعنيني، دون البحث والوقوف من أجل هذه الأشياء التي تسرقنا، ولو للحظة. ليست الحياة جميلة كما نظن ولا العكس أبدًا، لكنها قناعة الإنسان، ولكلٍّ منا تعريفه الخاص لذلك. ربما قليلٌ من كثير يرضيك، وإن كان للآخرين تصورٌ آخر في الطموح والسعي. لكن أقول كما ذكر درويش “الحلمُ ما هو؟ لا أكاد أراه حتى يختفي في الأمس”.

تراجع

يومًا تلو الآخر، وكما نفعل مع معظم حياتنا، أتنازل عن الكثير من الأشياء لأجل ما هو أهمّ، لكني لن أتوانى عن السعي نحو هذه الحياة برغبةٍ كبيرة. أتراجع عن معظم أحلامي بسبب الأُطر الموجودة، الحياة البيروقراطية التي لا تخفى علينا، الكثير من الأمور المعيقة لنا. لرغبةٍ عارمةٍ في هذه النفس، من أجل الحياة التي ما زال فيها متسعٌ لنا.

الأشجار، قصيدةٌ تخص المرء وحده

الحالة

بدءًا من أسبوع الشجرة آنذاك، الذي كان يمرّ على الكثيرين دون ملاحظة، ويقف عنده. حتى هذه اللحظة التي فيها يتفاقم شغفه بالبحث عن تلك الدروب التي تكسوها هذه الكائنات العظيمة. ربما لأن حياته كانت ضمن تلك الإطارات المحدودة، ليس فيها سوى شجرة أو اثنتين، وربما عالمٌ صغير ليس فيه سوى الآمن ومن يحب.

بذرة، شجيرة، شجرة

هذه البذرة الضئيلة في كفّه، لا تشبه سوى الأمل الذي يندر في حياته معنويًا، فكان ذلك التعويض عن طريق كل ما هو فيزيائي وتحديدًا تلك الأشجار. يذكر هرمان هسه في حديثه عن تلك المخلوقات، وهذا جزء منها: ” كل فتى صغير عاشر الأشجار قليلا يدرك أن أقوى الأخشاب هي تلك التي تمتلك أضيق الحلقات. فكلما زاد ارتفاعها واقتربت أكثر من الأخطار؛ كلما زادت القوة والمثالية في نموها، وأضحت عسيرة على التحطيم.

الأشجار مقدسة. من يتعلم كيف يتحدث معها، من يتعلم كيف ينصت إليها، يستطيع الاقتراب أكثر من الحقيقة، بل وملامستها. الحقيقة الهاربة من سيطرة التفاصيل. الحقيقة الأبدية للحياة.

تقول شجرة: النواة مخبأة في داخلي، البريق، الفكر. أنا حياة مستمدة من الحياة السرمدية. المواقف والأخطار التي تسلكها الأبدية الأم معي متفردة. متفرد شكل العروق الطافحة على جسدي، متفردة مسرحية الأغصان تلك التي تجري على أفرعي وتلك الندبات الصغيرة على أزيائي الخارجية. لقد خلقت لأعكس الأبدية في أكثر تفاصيلي صغرا. وتقول أخرى: أنا واثقة في قوتي. لا أعلم شيئا عن آبائي، ولا أعلم شيئا عن آلاف الأطفال الصغار الذين ينبثقون مني كل ربيع. أنا أستكشف فقط تلك الأسرار المدفونة في بذوري حتى النهاية. لا شيء آخر يهمني”.

في جوف القصيدة

تميز بعض الشعراء وربما بعض القصائد بتفرّد وتردّد الأشجار والشجيرات فيها. للأشجار رمزية ودلالات جمّة. الشيح والنخل لدى محمد الثبيتي: “يا أيها النخلُ، يغتابك الشجر الهزيل، ويذمُّك الوتد الذليل، وتظلُّ تسمو في فضاء الله، ‏لكن سيقامذا ثمرٍ خرافي، وذا صبر جميل”. وطغى الجناس حتى حلّ التماهي أنت والنخل طفلانِ: طفلٌ قضى شاهدًا في الرجال وطفلٌ مضى شاهرًا للجمالْ، ونتيجةً لدور الجناس في ترسيخ التشابه بين الشاعر والنخلة، انتهى القسم الأول بالتماهي بينهما، فأصبحا شيئًا واحدًا: “أنت والنخل سِـيَّـانِ: قد صرت ديدنهن، وهنَّ يداكْ / وصرتَ سمِاكًا على سمكِهنَّ، وهُنَّ سماك”.

محمود درويش والسرو

لطالما تمثل شعر محمود وغيره بالأشجار؛ الخرّوب والسرو وغيره، يذكر درويش في حكاية لصديقه الشاعر الكبير سميح القاسم، وقد ذكرها أنور الخطيب. كان فيها ردّ درويش على رجلٍ فلندي قال أنّ أجداده هم الذين زرعوا الخروب في كيبوتس يسعور. قال لسميح: “ولكن شجرة الخروب إيّاها التي دلّت المستوطن الأجنبي “البريء” عليّ وعلى أجدادي هي غلاف هويتي، وهي أيضًا جلد روحي، إذا كان للروح جلد، هناك ولدت، وهناك أريد أن أُدفن، ولتكن وصيّتي الوحيدة”. وبهذا يكون درويش قد أوصى أن يدفن عند شجرة الخروب الكائنة في قريته (البروة) في شمال فلسطين، لكنّ أحدا لم يطبّق هذه الوصية، ربّما لأنها لم توثّق رسميًا.

وجاء ردّ سميح لدرويش قائلا: “أرجو أن تعذرني، لن أزور شجرة طفولتك في “البروة” ولن أحفر عليها اسمينا.. شيء آخر أستطيعه من أجلي ومن أجلك هو أن أحفر اسمينا على الريح، وأن أنقش الريح على الوطن، وأن أكتب الوطن على لحمي، وأن أنثر لحمي في القصيدة”.

للنخلة شيءٌ من التقديس

عمة الإنسان، الشجرة المباركة والشجرة الأم. هذه التي تغنّى بها الناس وأضحت رمزًا للمجتمعات ودليلاً على الجود والكرم. ربما هي أقرب للعربي من غيره، وأقرب كثيرًا لأولئك الذين نشأوا عليها، وأبصروها في مهدهم. “علّقوني على جدائل نخلة/ وأشنقوني، فلن أخون النخلة، هذه النوقُ لي وكنت قديمًا/ أحلبُ النوقَ راضيًا وموله”. هذه النخلة لم تأتِ هنا سوى كصورة مصغرة عن الوطن، أي أنها وطن، فلن أخون النخلة (الوطن).

وقد ارتوى النخلُ حبًّا وعشقًا عند أهله العراق، حتى تجد أنّه من النادر أن يخلو من كلمات ومكان ومحيط أحدهم. من قصيدة (سلامٌ على بغداد) للشاعر العراقي المرحوم عبدالرزاق عبدالواحد: “وآخيت فيها النخل طلعًا فمبسِراً/ إلى التمر والأعذاقُ زاهٍ قطافها. مؤاخاة للنخل وهو ذو العمر المديد المتجدد، من الطلع حتى البسر حتى الرطب في أعذاقها الزاهية القطاف إلى التمر. وهذا مما ي يُقال في النخلة، ليس بحديث ولكن الأسماع استحسنت هذا القول “أكرموا عمتكم النخلة”.

في ذكرى ممدوح عدوان، يشبهه درويش بالزنزلخت. “لكني لا أنسى ضحكتك التي تشبه شجرة زنزلخت مبحوحة الأغصان، عاليةً وعريضة، لا تاريخ لها منذ صار التاريخ قهقهةً عابثة. ومنذ عادت الجرار إلى حفظ الصدى، كالزيت، خوفًا عليه من آثار الشمس الجانبية”.

للوراء مرةً أخرى

هناك ما هو أكثر حبًا ورقةً من هذا، وهناك ما يشبه الطيف الجميل الذي يعيدنا إلى التقاط الفرح مرةً أخرى. هناك تلك الذكرى والأيام التي لا تُنتزع من قلبه، تلك السنون التي ولّت، كانت هي الشرارة الأولى في حياته للبحث عمّا يحب. وكل وميضٍ يمرّ في قراءاتنا يعيدنا دائماً إلى اللحظات الأولى التي أدركنا وعرفنا فيها محيطنا الأول؛ التي تغدُو أشياؤه لاحقًا، هي مقدساتنا وعقيدتنا، حتى وإن كانت شجرةً واحدة.

مشاوير

الحالة

هذا الطريق وذلك الدرب، لم يكن يومًا شيئًا عاديًا تركناه خلفنا لنبحث عن الوجهة والغاية، بل كان فيه معظم الحكاية. نحن الذين نسعى بشكلٍ دؤوبٍ في نظرنا،عن خلاف ذلك الذي في أنظار الآخرين أيًّا كانوا، لم نكن يومًا على أي ضفّة؛ بل ما زلنا وسنكون في وسط هذا المحيط المليء بالصراعات، المادية منها والنفسية.

هل تعلم ماذا يعني أن تعيش في مدينة كهذه؟ مدينةٌ كبيرة مليئة بكل الأجناس، تبدو مرهِقة وفي ذات الوقت طاعنةً في عمرها، لكنني ما زلت احتفظ بحبٍ كبيرٍ لها؛ لأنها تشبه عندي بدايات المحبة. لكنني أعود تارةً إلى رشدي لأسأل نفسي عن هذا الاحتدام يوميًا، والسعي في كل صباح، حتى أنني لم أعد أثق بأنّ هذه صباحاتٌ طبيعية تُجبر نفسك فيها على السرعة والتنافس مع الآخرين على العبور، وربما تتجاوز تلك الإشارات التي لا ترصّد فيها.

البدايات

تبدو هذه الكلمة دائمًا لها وقعٌ عظيمٌ في نفسي؛ لأنني أعود للبحر في أول مرة رأيت فيه زرقته، وأعود لتلك الذكريات التي تشكل وما زالت تعيديني لحبها، أعود لتلك الجبال التي أتخيل حضورها في هذه السواحل. لكنني أعتب على هذا الواقع الذي شهدت بداياته الجميلة، التي انتكست لاحقًا لتصبح أيامًا حانقة، مدينة تدفعنا للجنون، للهروب منها في كل نهاية أسبوع، عقب كل يوم عمل، وأيضًا لنفكر كما يفكر الطائر الذي لا يجد له مكانًا هادئًا، نفكر بالسفر، هذا الحياة قيمتها في هذا السفر.

أنا وغيري نشبه أولئك الكتّاب كلهم، نشبه كتاباتهم ونحددها في حياتنا ومراحلنا، وربما يشدني في بعض الأيام أن اتمثّل للكاتب بيسوا الذي ينقم تارةً على أيامه ويكتب عدة كلمات عن يومٍ واحد؛ وهذه رغبةٌ عارمةٌ في الصمت. “أطلب سوى القليل من الحياة، وحتى ذلك القليل رفضَت الحياة منحي إياه. طلبتُ حزمة من ضوء الشمس، حقلاً، القليل من السكينة مع قليل من الخبز، ألا تثقل علي كثيراً معرفتي بأنني موجود، وألا أطلب من الآخرين شيئاً وألا يطالبونني هم بأي شيء”. أحيانًا تريد القليل القليل، وحتى ذلك وأنت في الناس أو وحدك؛ عليك أن تتجنب تلك الأفكار التي تقودنا غالبًا إلى التمرد على أي لحظة، حتى لو كانت بيننا وبين أنفسنا.

مشوار الحياة

كان بالإمكان أن تكون الأغنية هي واقع صحيح لكل هذا السعي في الصباح وفي بقية اليوم. لكنها وهم، “مشوار الحياة سوا بديناه”. مع كل هذا الطريق الذي ليس له آخر ولا حتى بداية واضحة، في كل هذه الدروب اليومية التي تبدأ فيها بكل هذه السرعة والسعي للحصول على نصيبك اليومي، الذي أرى فيه نفسي حالًا، لا يلائمني شيء سوى أنني أعتبر الخروج من العمل والذهاب للبيت ليس سوى حُلم، والعمل هو المستمر الذي صيرني آلة. مع كل هذا لا ينبغي أن ننسى وأن أنسى أنني سوف أُترك يومًا، أسافر في الأوطان لأبحث عن مدينةٍ أخرى، بصباحاتٍ مختلفة، آمل فيها ألّا أكون آلةً لها في القطاع المصرفي ستة أعوام

أحب درويش وأقرأ لغيره من الشعر، لكنني دائمًا أريد أن تكون لدي هذه الجدارية التي يقول فيها محمود: “وأنت في طريقك للبحث عن حياة، لا تنس أن تعيش”. هذه الجملة التي بمجرد أن تسمعها؛ ترى كل هذا الحياة كمراحل سريعة أتت كلها في مشهدٍ واحد أمام عينيك. لكن يومًا ما، في مكانٍ ما. سنقول أننا عبرنا – بفضل الله – كل هذا الذي كان يشقينا في إحدى مراحل العمر.

الأشجار، قصيدةٌ تخص المرء وحده

الحالة

بدءًا من أسبوع الشجرة آنذاك، الذي كان يمرّ على الكثيرين دون ملاحظة، ويقف عنده. حتى هذه اللحظة التي فيها يتفاقم شغفه بالبحث عن تلك الدروب التي تكسوها هذه الكائنات العظيمة. ربما لأن حياته كانت ضمن تلك الإطارات المحدودة، ليس فيها سوى شجرة أو اثنتين، وربما عالمٌ صغير ليس فيه سوى الآمن ومن يحب.

بذرة، شجيرة، شجرة

هذه البذرة الضئيلة في كفّه، لا تشبه سوى الأمل الذي يندر في حياته معنويًا، فكان ذلك التعويض عن طريق كل ما هو فيزيائي وتحديدًا تلك الأشجار. يذكر هرمان هسه في حديثه عن تلك المخلوقات، وهذا جزء منها: ” كل فتى صغير عاشر الأشجار قليلا يدرك أن أقوى الأخشاب هي تلك التي تمتلك أضيق الحلقات. فكلما زاد ارتفاعها واقتربت أكثر من الأخطار؛ كلما زادت القوة والمثالية في نموها، وأضحت عسيرة على التحطيم.

الأشجار مقدسة. من يتعلم كيف يتحدث معها، من يتعلم كيف ينصت إليها، يستطيع الاقتراب أكثر من الحقيقة، بل وملامستها. الحقيقة الهاربة من سيطرة التفاصيل. الحقيقة الأبدية للحياة.

تقول شجرة: النواة مخبأة في داخلي، البريق، الفكر. أنا حياة مستمدة من الحياة السرمدية. المواقف والأخطار التي تسلكها الأبدية الأم معي متفردة. متفرد شكل العروق الطافحة على جسدي، متفردة مسرحية الأغصان تلك التي تجري على أفرعي وتلك الندبات الصغيرة على أزيائي الخارجية. لقد خلقت لأعكس الأبدية في أكثر تفاصيلي صغرا. وتقول أخرى: أنا واثقة في قوتي. لا أعلم شيئا عن آبائي، ولا أعلم شيئا عن آلاف الأطفال الصغار الذين ينبثقون مني كل ربيع. أنا أستكشف فقط تلك الأسرار المدفونة في بذوري حتى النهاية. لا شيء آخر يهمني”.

في جوف القصيدة

تميز بعض الشعراء وربما بعض القصائد بتفرّد وتردّد الأشجار والشجيرات فيها. للأشجار رمزية ودلالات جمّة. الشيح والنخل لدى محمد الثبيتي: “يا أيها النخلُ، يغتابك الشجر الهزيل، ويذمُّك الوتد الذليل، وتظلُّ تسمو في فضاء الله، ‏لكن سيقامذا ثمرٍ خرافي، وذا صبر جميل”. وطغى الجناس حتى حلّ التماهي أنت والنخل طفلانِ: طفلٌ قضى شاهدًا في الرجال وطفلٌ مضى شاهرًا للجمالْ، ونتيجةً لدور الجناس في ترسيخ التشابه بين الشاعر والنخلة، انتهى القسم الأول بالتماهي بينهما، فأصبحا شيئًا واحدًا: “أنت والنخل سِـيَّـانِ: قد صرت ديدنهن، وهنَّ يداكْ / وصرتَ سمِاكًا على سمكِهنَّ، وهُنَّ سماك”.

محمود درويش والسرو

لطالما تمثل شعر محمود وغيره بالأشجار؛ الخرّوب والسرو وغيره، يذكر درويش في حكاية لصديقه الشاعر الكبير سميح القاسم، وقد ذكرها أنور الخطيب. كان فيها ردّ درويش على رجلٍ فلندي قال أنّ أجداده هم الذين زرعوا الخروب في كيبوتس يسعور. قال لسميح: “ولكن شجرة الخروب إيّاها التي دلّت المستوطن الأجنبي “البريء” عليّ وعلى أجدادي هي غلاف هويتي، وهي أيضًا جلد روحي، إذا كان للروح جلد، هناك ولدت، وهناك أريد أن أُدفن، ولتكن وصيّتي الوحيدة”. وبهذا يكون درويش قد أوصى أن يدفن عند شجرة الخروب الكائنة في قريته (البروة) في شمال فلسطين، لكنّ أحدا لم يطبّق هذه الوصية، ربّما لأنها لم توثّق رسميًا.

وجاء ردّ سميح لدرويش قائلا: “أرجو أن تعذرني، لن أزور شجرة طفولتك في “البروة” ولن أحفر عليها اسمينا.. شيء آخر أستطيعه من أجلي ومن أجلك هو أن أحفر اسمينا على الريح، وأن أنقش الريح على الوطن، وأن أكتب الوطن على لحمي، وأن أنثر لحمي في القصيدة”.

للنخلة شيءٌ من التقديس

عمة الإنسان، الشجرة المباركة والشجرة الأم. هذه التي تغنّى بها الناس وأضحت رمزًا للمجتمعات ودليلاً على الجود والكرم. ربما هي أقرب للعربي من غيره، وأقرب كثيرًا لأولئك الذين نشأوا عليها، وأبصروها في مهدهم. “علّقوني على جدائل نخلة/ وأشنقوني، فلن أخون النخلة، هذه النوقُ لي وكنت قديمًا/ أحلبُ النوقَ راضيًا وموله”. هذه النخلة لم تأتِ هنا سوى كصورة مصغرة عن الوطن، أي أنها وطن، فلن أخون النخلة (الوطن).

وقد ارتوى النخلُ حبًّا وعشقًا عند أهله العراق، حتى تجد أنّه من النادر أن يخلو من كلمات ومكان ومحيط أحدهم. من قصيدة (سلامٌ على بغداد) للشاعر العراقي المرحوم عبدالرزاق عبدالواحد: “وآخيت فيها النخل طلعًا فمبسِراً/ إلى التمر والأعذاقُ زاهٍ قطافها. مؤاخاة للنخل وهو ذو العمر المديد المتجدد، من الطلع حتى البسر حتى الرطب في أعذاقها الزاهية القطاف إلى التمر. وهذا مما ي يُقال في النخلة، ليس بحديث ولكن الأسماع استحسنت هذا القول “أكرموا عمتكم النخلة”.

في ذكرى ممدوح عدوان، يشبهه درويش بالزنزلخت. “لكني لا أنسى ضحكتك التي تشبه شجرة زنزلخت مبحوحة الأغصان، عاليةً وعريضة، لا تاريخ لها منذ صار التاريخ قهقهةً عابثة. ومنذ عادت الجرار إلى حفظ الصدى، كالزيت، خوفًا عليه من آثار الشمس الجانبية”.

للوراء مرةً أخرى

هناك ما هو أكثر حبًا ورقةً من هذا، وهناك ما يشبه الطيف الجميل الذي يعيدنا إلى التقاط الفرح مرةً أخرى. هناك تلك الذكرى والأيام التي لا تُنتزع من قلبه، تلك السنون التي ولّت، كانت هي الشرارة الأولى في حياته للبحث عمّا يحب. وكل وميضٍ يمرّ في قراءاتنا يعيدنا دائماً إلى اللحظات الأولى التي أدركنا وعرفنا فيها محيطنا الأول؛ التي تغدُو أشياؤه لاحقًا، هي مقدساتنا وعقيدتنا، حتى وإن كانت شجرةً واحدة.

لحظات شاردة

الحالة

هذه النفس في حاجة ماسّة لهذه الصباحات الهادئة، وإن كانت شحيحة بين بقية الأيام، إلا أنها مهمة لترتيب النفس خلال هذا العمر. كان فان جوخ إذا اشتدّ الأمر به، خرج إلى الطبيعة ليرسمها بعد التأمل فيها، وتحديدًا في ملجأه بقرية Saint Remy de Provence الفرنسية

خطوة بخطوة

في قصيدة محمد العبدالله (مشوار الحياة) التي غنّاها طلال عام 1978، ولولا طلال لما خرجت بهذا الشكل. أغنية عن الحياة وصوت رخيم. ربما للأغنيات التي يكون مغنيها طلال مداح، لمسة يطغى فيها الحزن، وربما يُخيّل لي ذلك. لكن أغنيته المذكورة آنفًا، تشبه البداية التي تمشي الهوينا ولا شيء فيها سوى السلام. “خطوة بخطوة، لحظة بلحظة، مشينا مشوار الحياة”.

وقفة على هذه الزُّرقة

برغم الوسع الهائل لهذه البحار والسموات، إلا أنّ اللون الأزرق نادرًا جدًا في غيرهما، ولو ذُكر لطرح الأمثلة، لكنه يتضاءل عندما تتذكر هذا المحيط الأزرق. وكلما طرأ البحر على الذاكرة، وقفت عند جدارية محمود درويش التي يذكر فيها كل الأشياء التي يمتلكها عدا نفسه. “كتب درويش الجدارية بعد عملية جراحية، اقترب فيها من الموت، فتأثر بهذه التجربة فكانت الجدارية. بعدها لم يعد للخوف مكان، فصار الموت رمزيا، فتعمق لدى الشاعر معنى البقاء بالشِّعر”.

بدايات

للبدايات صدىً رهيب، ولا زلت أتذكر الوهلة الأولى التي عرفت فيها كاتبًا يقال له سلامة موسى، وكم هي رائعة المرة الأولى التي تعرف فيها شيئًا جديدًا. وكذلك اللحظات التي تدرك فيها نعمة ما أنت بصدده، بعد أن تأخرَت عنها كثيرًا، وعند المحاولة الأولى، ولِعتَ بها. القراءة أو معرفة الشعر وأهله، ألأيام الأولى لك في شيءٍ تحبه. للبدايات وهج وكذلك ما بعدها؛ شريطة أن نحافظ على مخزون الدهشة ولا نسرف في ما نحب.

الوفرة الخاطئة

الحالة

يصل الإنسان لمرحلة مليئة بالوعي أو لعناته، تتضمن العزوف عن أشياء كثيرة في حياته، حتى في أدق التفاصيل التي كان يسعى لها ويهتم بها، وكل ذلك يأتي تزامنًا مع هذا العمر، بعد أن كانت تُشغله هواياتٌ أضحى يطارد ما كان ينصحه به الذين يفوقونه عمرًا. ومن طبيعة الإنسان رفض فكرة هذه الأمور التي يسمع عنها ويراها وهو ليس بصددها، لكنّه لابد أن يمرّ عليها كما هو محتومٌ أن يتلاشى كما تكتّل من صغره مرورًا بالجموع في عوالمه الخاصة والعامة. وهذا ليس مأزقا؛ بل نهاية رحلة كانت فيها النفس تلتهم ما يصادفها، وتتشرب الأفكار والأحلام، وربما أحلام وآمال الآخرين أيضًا. لكن عقب ذلك، تبدأ في النأي دون أخذ الإذن من صاحب هذا البدن، أو الرجوع إليه.

فهي بطبيعتها تنكمش مما يؤذيها، وتشعّ من كل ما يحتويها، لكنها وكما ذكرت، وكما ندرك جميعًا، تمرّ عليها مرحلة ربما تقف فيها لاهثةً من أشياء كثيرة ومآزق أكثر، جرّاء الكثير الذي احتملته، والعشم الذي انتظرت ثمرته، لكن لا جدوى من كل هذا. هي تبحث مؤخرًا عن السلام، حتى لو أصرّينا على مخالفة رغبتها، في النهاية سوف نخضع لأمر هذه النفس التي تشبه كل شيء يعيش ويحلّق ويتفاقم، ثم يخبو وينكمش ويتراجع ليرضى أخيرًا بالبعد عن الكثير من الأشياء والناس، والرضا بالواقعية والتخلي عن الوفرة – التي لا تُحصى – التي دُفنت في أعماق هذه النفس. وكل هذا ليس سلبًا علينا أو على أنفسنا؛ نحن نتاج عالمنا الذي نمرّ به، وأيامنا التي نحشدها بالأمنيات والانتظارات، ونغفل عن الواقع وربما العمل لذلك الشيء الذي نطمح له، وكل هذا ليس يأسًا من شيء، بل دعوةً لعدم إرهاق هذه النفس المسكينة بكل شيء؛ حتى لا تغدو خاليةً من وجود أي شيء.

أمام نفسي

الحالة

يقف مقابل مبنىً عملاق في هذه المدينة، ليس هناك أصواتٌ سوى صوت المطرقة، وتساقط أو التحام بعض الأخشاب، ومناداةٌ بين أولئك الموجودين في أحد طوابقه القريبة من الأرض. ربما سبعةً أو ثمانية طوابق، لم يصعد كثيرًا من الطوابق في حياته، كما كانت معظم الأشياء التي ليست في متناوله. ما بين ثلاثة إلى ستة عاملين في تلك المنطقة، وتحديدًا ذلك اليوم، يتردد صدى حواراتهم وكلُّ كلمة، ربما كان وقت ذلك العمل في يومٍ هو عطلةٌ لكثيرٍ من الناس. حيث لا صوت في ذلك الصباح عدا المطرقة.

ربما يكون هذا الوقت هو المقدّس له، لا كثير من الكلمات والأصوات، ومن حُسن حظه أنّ بجانب ذلك المبنى يُسمع هدير البحر، وقعُ أقدام بعض المحظوظين من المشاة، صوت الصباح الهادئ والمليء بالصمت الذي فيه إيماءاتٌ وحفيف.

الليل في هذه المدينة يخالف نهاره، حتى الأشخاص مختلفون عن بعضهم البعض، الليل هنا شبيهٌ بالغليان المستمر الذي تشاهده في وعاءٍ على النار، لكن المشهد الآن كبيرٌ جدًا، ولا يُدرك كاملًا من إنسانٍ مثلهم. الجميع يركض ويخرج عن طوره، وقد نسمّى الليل هنا أو ما يحدث فيه، هو ضربٌ من الجنون.

نفسي ما بين هذه الأوقات وتموّج الأيام، الصمت في عزّ النهار، والصخب في نهايات الأسبوع. نهرب من أحدهم للآخر، والعكس أيضًا. لكننا نختلف تمامًا في خضمّ هذان اللذان نعيش بهما في حياتنا. ففي هذا السكون، الصمت، الهدوء. هناك تنشأ حياة أخرى من هذا الخيال، لا أقول مشهد، بل حياة كاملة نصعد فيها ونهبط، نجدنا نذرف الدموع وتارةً نبتسم؛ وكأننا مجانين في نظر الآخرين، نبكي لسيناريوهات، نحن من ألّفناها وصدقناها، وربما لو تعبنا قليلًا لكانت ولادةً واقعية من هذا الخيال.

لكن هذا الصمت في ثناء الليل، هو الذي كان يبحث عنه، مثلما أُجبر عليه في بداياته، في لحظاته التي كان لا يشبه فيها سوى شجيرة، هذا السكون الذي كان فيه عتمة واقعية، خلفه كل التصور لهذا اليوم، وكل المفردات وقوة وجود وحضور الذكريات فينا

ربما هناك نصيبٌ أكثر في اللحظات الشحيحة، عوضًا عن كل تلك التي تكون مليئةً بالوفرة.

لا يمكن حسابه|مورغان هوسل

الحالة

الكثير من الأشياء لا معنى لها. الأرقام لا تُجمع، التفسيرات مليئة بالثغرات. ومع ذلك يستمرون في الحدوث – يتخذ الناس قرارات مجنونة، ويتفاعلون بطرق غريبة. مرارًا وتكرارًا. قال المؤرخ ويل ديورانت ذات مرة: “المنطق من اختراع الإنسان وقد يتجاهله الكون.” وغالبًا ما يمكن أن يدفعك ذلك إلى الجنون إذا كنت تتوقع أن يعمل العالم بطرق عقلانية. من الأسباب الشائعة لكل شيء من الحجج الخلافية إلى التنبؤ السيئ أنه قد يكون من الصعب التمييز بين ما يحدث وما تعتقد أنه يجب أن يحدث.

قصتان قصيرتان عن الحرب لتظهر لك ما أعنيه.

كانت معركة الثغرة وتُعرف أيضًا بالأردين (Bulge) 1945-1944 واحدة من أكثر المعارك العسكرية الأمريكية دموية في التاريخ. قُتل تسعة عشر ألف جندي أمريكي، وفقد أو جرح 70 ألفًا آخرين، في ما يزيد قليلاً عن شهر عندما شنت ألمانيا النازية هجومًا أخيرًا مشؤومًا ضد الحلفاء. جزء من السبب الذي جعله دمويًا هو أن الأمريكيين فوجئوا. وجزء من سبب اندهاشهم هو أنه في العقول العقلانية للجنرالات الأمريكيين، لم يكن من المنطقي أن تهاجم ألمانيا. لم يكن لدى الألمان ما يكفي من القوات للفوز بهجوم مضاد، والقلة المتبقية كانت في الغالب من الأطفال دون سن 18 عامًا وليس لديهم خبرة قتالية. لم يكن لديهم ما يكفي من الوقود. كان الطعام ينفد. شكّلت التضاريس في غابة أردين في بلجيكا الاحتمالات ضدهم. كان الطقس فظيعا. عرف الحلفاء كل هذا. لقد رأوا أن أي قائد ألماني عقلاني لن يشن هجومًا مضادًا. لذلك تُركت الخطوط الأمريكية ضعيفة إلى حد ما وغير مزودة بإمدادات. وبعد ذلك، بوم. هاجم الألمان على أي حال. ما أغفله الجنرالات الأمريكيون هو مدى اضطراب هتلر. لم يكن عقلانيًا. كان يعيش في عالمه الخاص، بعيدًا عن الواقع والعقل. عندما سأل جنرالاته عن المكان الذي يجب أن يحصلوا فيه على الوقود لإكمال الهجوم، قال هتلر إن بإمكانهم سرقته من الأمريكيين. الواقع لا يهم.

يشير المؤرخ ستيفن أمبروز إلى أن أيزنهاور والجنرال عمر برادلي حصلوا على كل منطق التخطيط للحرب والمنطق الصحيح في أواخر عام 1944 ، باستثناء تفاصيل واحدة – كيف أصبح هتلر غير عقلاني. لكن هذا كان مهمًا أكثر من أي شيء آخر.

بعد جيل، حدث شيء مشابه خلال حرب فيتنام.

اعتبر وزير الدفاع روبرت ماكنمارا العالم مشكلة حسابية كبيرة. لقد أراد تحديد كل شيء كميًا، وبنى حياته المهنية على فكرة أنه يمكن حل أي مشكلة إذا أطعت الحقيقة الباردة للإحصاءات والمنطق. كان أحد مقاييس النجاح الرئيسية خلال فيتنام هو إحصاء الجثث – كم عدد الفيتكونغ الذين قتلتهم القوات الأمريكية؟ هل يموت الفيتكونغ أكثر من الأمريكيين؟ كان من السهل تتبعه، ومن السهل عرضه على الرسم البياني، وأصبح هاجسًا. ثم كان هناك المنطق: إذا قُتل عدد كافٍ من الفيتناميين الشماليين، يمكنك تحطيم روح العدو الذي رأى أن فرصه في النصر تتضاءل. كان المزيد من أجسام العدو معادلاً للاقتراب من الفوز. أوضح ويليام ويستمورلاند، قائد القوات الأمريكية، في عام 1967: سنستمر في نزيفهم حتى تستيقظ هانوي (عاصمة فيتنام) على حقيقة أنهم نزفوا بلادهم إلى حد الكارثة الوطنية لأجيال. ثم سيتعين عليهم إعادة تقييم موقفهم.

تحولت الحرب إلى معادلة حسابية. إذا فاق عدد قتلى العدو عدد القتلى الأمريكيين، سينتصر الأمريكيون. منطق الجليد البارد (يتضمن أعمال تجسس). لكن الجثث تراكمت، واستمرت الحرب. لن تنجح “المعادلة” إلا إذا كان قادة فيتنام الشمالية فاعلين هادئين وعقلانيين “يحسبون التكاليف والفوائد إلى الحد الذي يمكن أن تكون فيه مرتبطة بمسارات عمل مختلفة، ويتخذون الخيارات وفقًا لذلك”، على حد تعبير إحدى الصحف.

لكنهم لم يفعلوا. أخبر إدوارد لانسديل من وكالة المخابرات المركزية ماكنمارا ذات مرة أن إحصائياته تفتقر إلى شيء ما.

قال ماكنمارا، “ماذا؟”

قال لاندسدال، “مشاعر الشعب الفيتنامي”.

لا يمكنك التقاط ذلك على الرسم البياني. لكنها تعني كل شيء. في عام 1966، كتب مراسل نيويورك تايمز هاريسون سالزبوري: “نادرًا ما تحدثت إلى أي فيتنامي شمالي دون إشارة إلى الحديث عن استعداد الشعب للقتال لمدة عشرة أو خمسة عشر أو حتى عشرين عامًا من أجل تحقيق النصر. في البداية اعتقدت أن مثل هذه التعبيرات قد تعكس الدعاية الحكومية، لكن بدأت أدرك أن هذا كان علم نفس وطني. قال هو تشي مينه بصراحة: “سوف تقتل عشرة منا ،وسوف نقتل واحدًا منكم، لكنك أنت من ستتعب أولاً.” هذا هو بالضبط ما حدث في أمريكا، حيث لا تعني الإحصاءات شيئًا ضد المشاعر.

قال ويستمورلاند ذات مرة للسيناتور فريتز هولينجز، “إننا نقتل هؤلاء الأشخاص بمعدل 10 إلى واحد”. أجاب هولينجز ، “الشعب الأمريكي لا يهتم بالعاشر. إنهم يهتمون بأمرهم.” كان من الصعب التوفيق بين ذلك في العقل الإحصائي لشخص مثل ماكنمارا. كان الأمر أشبه بتحدي قوانين الفيزياء، أو خطأ مطبعي في معادلة رياضية. ولكن هذه هي الطريقة التي يعمل بها العالم. بعض الأشياء لا تحسب.

قال المستثمر جيم جرانت ذات مرة:

لنفترض أن قيمة الأسهم العادية يتم تحديدها بحتة من خلال أرباح الشركة المخصومة من أسعار الفائدة ذات الصلة وتعديلها لمعدل الضريبة الهامشي هو نسيان أن الناس قد أحرقوا السحرة، وذهبوا إلى الحرب لمجرد نزوة، وارتفعوا إلى الدفاع عن وصدق جوزيف ستالين أورسون ويلز عندما أخبرهم عبر الراديو أن المريخ قد هبطوا.

كان هذا هو الحال دائما. وسيظل هذا هو الحال دائمًا. تتمثل إحدى طرق التفكير في هذا في أنه يوجد دائمًا جانبان لكل استثمار: الرقم والقصة. كل سعر استثمار ، كل تقييم للسوق، هو مجرد رقم من اليوم مضروب في قصة عن الغد. الأرقام سهلة القياس، سهلة التتبع، سهلة الصياغة. لقد أصبحت أسهل لأن كل شخص تقريبًا لديه وصول رخيص إلى المعلومات. لكن القصص غالبًا ما تكون انعكاسات غريبة لآمال الناس وأحلامهم ومخاوفهم وانعدام الأمن والانتماءات القبلية. وقد أصبحوا أكثر غرابة حيث تضخّم وسائل التواصل الاجتماعي الآراء الأكثر جاذبية من الناحية العاطفية.

بعض الأمثلة الحديثة حول مدى قوة ذلك:

كان بنك (Lehman Brothers) 1847 في حالة جيدة في 10 سبتمبر 2008. وبلغت نسبة رأس المال من المستوى الأول – وهي مقياس لقدرة البنك على تحمل الخسارة – 11.7٪. كان ذلك أعلى من الربع السابق. أعلى من جولدمان ساكس. أعلى من بنك أوف أمريكا. لقد كان رأس مال أكبر مما كان عليه بنك ليمان في عام 2007، عندما كانت الصناعة المصرفية قوية كما كانت في أي وقت مضى.

بعد اثنتين وسبعين ساعة أفلست.

الشيء الوحيد الذي تغير خلال تلك الأيام الثلاثة هو ثقة المستثمرين في الشركة. ذات يوم آمنوا بالشركة. في المرة التالية لم يفعلوا ذلك وتوقفوا عن شراء الديون التي مولت ميزانية بنك ليمان. هذا الإيمان هو الشيء الوحيد الذي يهم. ولكنه كان الشيء الوحيد الذي كان من الصعب تحديده كميًا، ومن الصعب وضع نموذج له، وصعوبة التنبؤ به، ولم يتم حسابه في نموذج التقييم التقليدي.

كان متجر GameStop عكس ذلك. أظهرت الإحصاءات أنه كان على وشك الإفلاس في عام 2020. ثم أصبح هوسًا ثقافيًا على موقع الإنترنت reddit، وارتفع السهم، وجمعت الشركة الكثير من الأموال، والآن تبلغ قيمتها 11 مليار دولار.

الشيء نفسه هنا: المتغير الأكثر أهمية هو القصص التي رواها الناس والمشاعر التي عثروا عليها فجأة. وكان هذا هو الشيء الوحيد الذي لا يمكنك قياسه ولا يمكنك التنبؤ به بعد النظر. لهذا السبب لا تحسب النتائج. عندما يحدث شيء من هذا القبيل ، ترى الناس مصدومين وغاضبين من كيفية انفصال السوق عن الأساسيات.

لكن جرانت كان محقًا: لقد كان الأمر دائمًا على هذا النحو.

كانت عشرينيات القرن الماضي مليئة بالدوار. كانت الثلاثينيات ذعرًا تامًا. كان العالم يقترب من نهايته في الأربعينيات. الخمسينيات ، الستينيات ، السبعينيات ، كانت طفرة وانهيار ، مرارًا وتكرارًا. كانت الثمانينيات والتسعينيات جنونية. كان العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أشبه ببرنامج تلفزيوني واقعي.

إذا كنت قد اعتمدت على البيانات والمنطق وحدهما لفهم الاقتصاد فقد كنت مرتبكًا لمدة 100 عام على التوالي. تقدم اليابان للشركات خصمًا ضريبيًا بنسبة 40٪ لزيادة الأجور. لكن معظم الشركات ليست كذلك ، جزئيًا لأن الزيادات ليست جزءًا من ثقافة الأعمال اليابانية. وفي الوقت نفسه، ارتفعت قيمة ملفات JPEG (جيه بيه إيه جي) الخاصة بالقردة عدة آلاف في المائة في الأشهر القليلة الماضية ، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن هذا جزء من ثقافة التشفير.

غرد الخبير الاقتصادي بير بيلوند بهذا مؤخرًا:

مفهوم القيمة الاقتصادية سهل: كل ما يريده شخص ما له قيمة، بغض النظر عن السبب (إن وجد)، وقيمته أعلى كلما أرادت أكثر وقلت. لا فائدة، ولا تدفق نقدي مخصوم – فقط سواء أراد الناس ذلك أم لا، لأي سبب من الأسباب. الكثير مما يحدث في الاقتصاد متجذر في العواطف، والتي قد يكون من المستحيل تقريبًا فهمها في بعض الأحيان.

بالنسبة لي، من الواضح أن الشيء الوحيد الذي لا يمكنك قياسه، ولا يمكنك التنبؤ به، ولا يمكنك تصميمه في جدول بيانات هو أقوى قوة في جميع الأعمال والاستثمار – تمامًا كما لو كانت أقوى قوة في الجيش. نفس الشيء في السياسة. نفس الشيء في الوظائف. نفس الشيء في العلاقات.

الكثير من الأشياء لا تحسب.

يكمن الخطر، كما تراه غالبًا في الاستثمار، عندما يصبح الناس شبيهين بماكنمارا – مهووسين بالبيانات وواثقين جدًا في نماذجهم بحيث لا يتركون مجالًا للخطأ أو المفاجأة. لا مجال لأن تكون الأشياء مجنونة وغبية وغير قابلة للتفسير وتبقى على هذا النحو لفترة طويلة. يسأل دائما ، “لماذا يحدث هذا؟” ونتوقع أن تكون هناك إجابة عقلانية. أو ما هو أسوأ ، أن تخطئ دائمًا في ما حدث لما تعتقد أنه كان يجب أن يحدث.

أولئك الذين يزدهرون على المدى الطويل هم أولئك الذين يفهمون أن العالم الحقيقي هو سلسلة لا تنتهي من العبث والارتباك والعلاقات الفوضوية والأشخاص غير الكاملين.

يتطلب فهم هذا العالم الاعتراف ببعض الأشياء.

جون ناش هو أحد أذكى علماء الرياضيات الذين عاشوا على الإطلاق، وفاز بجائزة نوبل. كان أيضًا مصابًا بالفصام، وقضى معظم حياته مقتنعًا بأن الأجانب كانوا يرسلون له رسائل مشفرة. تروي سيلفيا نصار في كتابها “عقل جميل” محادثة بين ناش والأستاذ في جامعة هارفارد جورج ماكي: “كيف يمكنك، عالم رياضيات، رجل مخلص للعقل والإثبات المنطقي، كيف لك أن تصدق أن كائنات فضائية ترسل لك رسائل؟ كيف تصدق أنه يتم تجنيدك من قبل كائنات فضائية من الفضاء الخارجي لإنقاذ العالم؟ ” سأل ماكي. “لأنه ،” قال ناش ببطء في رحلته الجنوبية الرقيقة المعقولة، “الأفكار التي كانت لدي عن كائنات خارقة للطبيعة جاءت لي بنفس الطريقة التي فعلت بها أفكاري الرياضية. لذلك أخذتها على محمل الجد “.

الخطوة الأولى لقبول أن بعض الأشياء لا تُحسب هي إدراك أن سبب ابتكارنا والتقدم هو أننا محظوظون بوجود أشخاص في هذا العالم تعمل عقولهم بشكل مختلف عن عقولك. ما وراء ناش يوجد أشخاص مثل إيلون ماسك وستيف جوبز، شخصياتهم متساوية في الذكاء والعبثية، ولا يمكن فصل العبث عن الذكاء – عليك قبول الحزمة الكاملة. لن نصل إلى أي مكان أبدًا إذا نظر الجميع إلى العالم على أنه مجموعة نظيفة من القواعد العقلانية التي يجب اتباعها.

التالي هو قبول أن ما هو منطقي لشخص ما يمكن أن يكون مجنونًا لشخص آخر. سيتم احتساب كل شيء إذا كان لدى الجميع نفس الأفق الزمني والأهداف والطموحات وتحمل المخاطر. لكنهم لا يفعلون. يعتبر الذعر من بيع الأسهم بعد انخفاضها بنسبة 5٪ فكرة رهيبة إذا كنت مستثمرًا طويل الأجل ومهنيًا ضروريًا إذا كنت تاجرًا محترفًا. لا يوجد عالم يجب أن يتوافق فيه كل عمل أو قرار استثماري تراه مع وجهة نظرك الخاصة للعالم.

الثالث هو فهم قوة الحوافز. الفقاعات غير عقلانية من الناحية الفنية، لكن الأشخاص الذين يعملون في فقاعات – سماسرة الرهن العقاري في عام 2004 أو سماسرة البورصة في عام 1999 – يكسبون الكثير من المال منهم لدرجة أن هناك حافزًا قويًا للاستمرار في تشغيل الموسيقى. إنهم لا يخدعون عملائهم فحسب ، بل يخدعون أنفسهم أيضًا. لا شيء يجعل الناس ينظرون بطريقة أخرى مثل المال السهل.

الأخير هو قوة القصص على الإحصاء. “أسعار المساكن بالنسبة إلى الدخل المتوسط ​​أعلى الآن من متوسطها التاريخي وعادة ما تعني العودة” ، هو إحصاء. “جيم ربح للتو 500000 دولار من المنازل المقلوبة ويمكنه الآن التقاعد مبكرًا وتعتقد زوجته أنه مذهل” هي قصة. وهي طريقة أكثر إقناعًا في الوقت الحالي. إذا نظرت ، أعتقد أنك ستجد أنه أينما يتم تبادل المعلومات – أينما توجد منتجات وشركات ومهن وسياسة ومعرفة وتعليم وثقافة – ستجد أن أفضل قصة هي التي تفوز. الأفكار العظيمة التي تم شرحها بشكل سيء لا يمكن أن تذهب إلى أي مكان بينما الأفكار القديمة أو الخاطئة التي يتم إخبارها بشكل مقنع يمكن أن تشعل ثورة.

قال الروائي ريتشارد باورز: “أفضل الحجج في العالم لن تغير رأي أي شخص. الشيء الوحيد الذي يمكنه فعل ذلك هو القصة الجيدة “.

من الصعب إجراء الحساب، ولكن هذه هي الطريقة التي يعمل بها العالم.

هذا الجزء من اليوم في المدينة

الحالة

الرابع عشر من يناير، وحلكة هذا الليل تناسب البعض عن سواهم؛ لأنّ منتصف اليوم الأول غالبًا يُقضى في أوقاتٍ لا يملك منها شيئًا شخصيًا، وليس له فيها لا أمر ولا رفض. وهذا الليل قصة خالدة، تضمّن الكثير من حيوات الناس وآمالهم، بوحهم وبثّهم، منذ القدم وحتى يومنا هذا. يذكر درويش في قصيدته رسالة من المنفى مخاطبًا أمّه: “الليل يا أمّاه، ذئبٌ جائعٌ سفاحْ، يطارد الغريب أينما مضى، ويفتح الآفاق للأشباح”.

ساعة الذروة في بداية اليوم ومنتصفه، ربما تكون هذه الجزئية المهولة بمن وما فيها، هي أقرب لمشهدٍ سينمائي يحدث فيه هذا الكمّ الهائل من التفاصيل. استعجال اليوم قبل بدئه، الاختناق المروري وراديو الصباح، العبوس والشتائم، المكان الذي يخبر الموظف نفسه أنّه لا يلائمه، بيئة العمل وشطحات المسؤولين، الابتزاز والاحتراق الوظيفي، العودة في ذات الاختناق المروري وأنت منهكٌ تمامًا، لم يبق لك شيئًا من روحٍ أو جسد.

كيف تخبر إنسانًا أنّ الحياة بخير إذا كان لا يملك شيئًا من يومه، لا ليلًا ولا نهارًا. ومن يتفكر في هذا تهُن عليه مصيبته التي ينازع فيها إلى آخر لحظة، منتظرًا نصف يومه الآخر، وآملًا في أفضل من هذه المحطة. هذا الليل لا يشبه شيئًا سوى قصيدة خاصة بهذا الإنسان وحده، يرمّم ما تبعثر، ويأمل في غدٍ أفضل، ويعيد نفسه من خلال أموره التي يُحب، ولو كان هذا الأمل عصيًا أن يُذكر في بداية اليوم، إلّا أنّه قد يولد من جديد في هذا الظلام.

لولا القليل من الأمل والناس والتفاصيل الصغيرة والكلمات اللطيفة والمؤمنين بك، لما عرفنا انتظار الغد، والعمل للمجهول، واحتواء الاحتمالات، لا نعيش الفأل إلا لغدٍ واعد فيه حياةٌ أخرى، ربما يملؤها الأمل لما بعد ذلك. وها هي الحياة – حياتي – أعرف فيها سوء الواقع أحيانًا، لكنني أزخرفه كتابةً حتى تجد فيه بصيصًا من الفرح، وربما تطول المرحلة لكنها ستنتهي.

لطالما أخذت أغنية أو شطرًا من أغنية عبدالحليم مأخذًا آخر، في أغنية موعود، عندما تغنّى “في نفس المكان ضايعين، في نفس المكان”. وإن صحّ القول، لا يشبه هذا شيئًا سوى التكرار في ذات الدائرة، نفس العمل يوميًا، ذات الأرقام والأوراق والعملات والإشكاليات. ليس هناك آفة للمكان سوى المكوث فيه حتى تغدو آلة أو أريكة، تمرّ عليهم السنون حتى يصبحوا شيئًا تالفًا.

من حسن الحظ أنّنا نملك هذا الفصل من اليوم، في قطعة مترامية الأطراف، تتجاوز الأرض التي تكفي زمرة من السباع. هذه العتمة هي الغطاء لكل الذين هربوا من بداية يومهم، وهذا لا يتجاوز الأمل الذي لولاه لما هدأنا نهارًا آملين في سكون الليل والحياة التي تعنينا. يذكر أبو فراس الحمداني عن : “إذا الليل أضواني بسطت يدى الهوى، وأذللت دمعًا من خلائقه الكبر”.


ليل ومدينة

الحالة

“هل من الممكن ألّا تُلهمك هذه المدينة على الإطلاق؟” سؤال يُطرح من شخص لآخر، من على شواطئ نابولي.

لطالما كان للمكان سلطة على هذه النفس، سواءً بالسلب أو الإيجاب، في الأرياف أو المدن، لذاته أو للأشخاص فيه. وهذا الإلهام الذي يُستحث ويُطلب، ليس شرطًا أن تكون ثمرته من أجل شيءٍ عظيم، يكفي أن يكون وقودًا لنفسٍ أوشكت على الذبول. هذا الإلهام والشغف يعني الشخص نفسه دون الحاجة للحديث عنه وإرشاد الجميع.

المكان جغرافيًا هو الوطن الذي يذود عنه الإنسان بكل مشاعره وكلماته، ولذلك قال محمود درويش: علّقوني على جدائل نخلة/ واشنقوني فلن أخون النخلة.

“شكّل المكان ( الجغرافي ) حيزًا كبيرًا في شعر محمود درويش، فهو من أكثر الشعراء المحدثين ارتباطا بهذا المكان واندماجًا بمكوناته المختلفة، فالمكان عنده ليس مجرد مأوى يسكنه أو يأوي إليه و إنما “المكان مكمل للإنسان فهو الذي يحتوي الإنسان و يعطي للأحداث التي يقوم بها الحيوية و المعنى و القيمة”. يقول الشاعر معبرًا عن حبه لوطنه و تعلقه به : “أنا لا أكون إلا في الأرض، و كل وجودٍ لي خارجها إنما هو ضياع و تيه نهائي، لتكن الأرض داخلي تكتبني وأكتبها”.

بطرسبورج دوستايفسكي، طنجة محمد شكري، قاهرة نجيب محفوظ، باريس بعيون جورج أورويل وهمنغواي وسارتر. مدن كثيرة يحتفي بها الناس؛ لانها أضحت الوطن بالنسبة لهم. يقول ديستوفسكي عن سانت بطرسبورج: “هل حدث لك أن مشيت في يوم من أيام الخريف في وقت متأخر في بعض شوارع المدينة؟ هل تسنى لك أن شاهدت عندئذ كيف راحت المصابيح القليلة تلقي بضوئها الشاحب على الحوائط العليا للبيوت، وكيف ذابت قطع من المباني في السحب الرمادية مكونة كتلة واحدة، وكيف راح الضوء يهتز خافتاً في النوافذ، كل هذا والمطر ينهمر رتيباً فوق الأسطح والريح الباردة تصفر بشدة؟”.

من بين أزقّة وحواري القاهرة، تجد نجيب محفوظ ظاهرًا أمامك، كيف لا، وهو الذي شرّح وأجاد في وصف تلك المدينة ومن فيها. لن يصل محفوظ لكل هذه الأنفس وأماكنها حتى يقدّم لها مكانًا خاصًا في قلبه، من رواية خان الخليلي أحد الأحياء القديمة، إلى زقاق المدق والقاهرة الجديدة، أيضًا بين القصرين والسكرية وقصر الشوق. ” وعندما نتمعن جيدًا في روايات نجيب محفوظ نجده يتعامل مع مدينته باعتبارها أرضية اجتماعية وثقافية معقدة أفرزتها المدينة بكل أشكال علاقاتها ومؤسساتها وشخوصها وقوانينها”.

العلاقة بالمدن

هذه الكيمياء التي تحدث بين أمرين لا يدركان لغة بعضهما البعض، هو الأمر الذي قد يساعد على الاستمرارية بشكلٍ أفضل دون الحاجة للتوضيح والتبرير، والعتب المباشر. قدسية الإنسان للمكان لا تحتاج إلى لغة ومفرداتها، ولا إلى التصريح بذلك للجميع. يكفي المدينة امتنانه الدائم بوجوده فيها. وللمكان قيمةٌ أكبر؛ إذا استولى على النصيب الأكبر من طفولة الإنسان وذكرياته، أيضًا قد تتعاظم المدينة لوجود الناس المقربين فيها، حيث تغدو وطنًا لا يستحق الخروج منه إلا لأسبابٍ أكبرُ من أن تُحتمل.

هل تلهمني مدينة؟

في العمل السينمائي The Hand Of God، لم يُلهم أحد ابطال الفيلم الإيطالي بشيءٍ أبدًا، حتى مع وجود ماردونا في فريقه المفضل، لكنه في النهاية بعد أن وقف مع أحد المخرجين على شاطئ مدينة نابولي، أدرك أنّ هذه المدينة فيها الكثير من الأشياء التي لا تتطلّب سوى التفاتة واحدة؛ لتدرك هذا الكمّ الهائل من الجمال.

لا أحد ينكر فضل وجود البحر في أي مدينة، على خلاف الموارد المطلوبة والموجودة. فهي ملائمة لحياة الكثير من الناس، الطبيعين وأولئك الذين يجبرون لظروفٍ أخرى. ولكل إنسان طريقته في البحث عن شغفه وإلهامه الذي يعنيه دون غيره. ربما تكون الشوارع المترامية، والناس المختلفة، وكذلك الألسن العديدة في مدينة كهذه، هي من الأسباب التي تجعل الإنسان مأخوذًا بها. وبقعة كهذه المدينة لا يسعني سوى الامتنان يومًا تلو الآخر لوجودي فيها.

لا يسعني سوى البحث عن كل تلك الطرقات والأماكن التي تشبهني دون الحاجة للخروج عن منطقة الراحة والرتابة والروتين. في هذه المدينة أبحث بشكلٍ دوري عن شيءٍ جديد، يعيد لي هذه الدهشة التي وجدتها أول مرة.

فيرا لينهارتوفا، من لقاء ميلان كونديرا

الحالة

“لذلك اخترت المكان الذي أريد أن أعيش فيه ، لكنني أيضًا اخترت اللغة التي أريد التحدث بها.”

عندما بدأ عام 1992 في جرّ نفسه ببطء من الخريف إلى الشتاء، بدأت في اكتشاف مربى اللؤلؤ والسجائر والتعرض الشمالي. كنت قد غادرت للتو مدينة يبلغ عدد سكانها حوالي نصف مليون نسمة لبلدة صغيرة يبلغ عدد سكانها 1200 نسمة في نهاية طريق على جزيرة. كان الملل غزيرًا. كان هناك جبل في المؤخرة، والبحر في المقدمة، وكل حياتك يجب أن تكون ممتلئة في شريط رفيع بين الاثنين. كنت أقضي الصيف هنا، أتعلم كيفية السباحة، وركوب الدراجة، وشيء أو اثنين عن علم التشريح البشري على شاطئ العراة المحلي. كنا نقضي الأيام في القفز فوق الجدران الحجرية الجافة ومشاهدة الأفلام من أعلى شجرة بجوار سينما في الهواء الطلق. مع انخفاض السحب وأصبح البحر رماديًا، تم التخلص من البراءة الأخيرة ببطء من طفولتي. جاء اندفاع التبغ والحزن، والموسيقى المعاناة التي صنعت في سياتل هروب طبيعي؛ أصبحت شخصيات التعرض الشمالي قدوة في غياب الآخرين.

كان الشتاء عاصفًا، منعزلاً وهادئًا. بحلول ذلك الوقت، كنت أعلم أن الحرب لن تنتهي في غضون شهر أو شهرين. الاعتراف بأن سراييفو لم تعد موطني، شعرت بأنه غير مقبول، وخيانة لكل من بقي وكل من غادر. ومع ذلك ، كان هذا حيث كنت، حيث كان علي أن أجد طريقة لأكون. من بين الأشياء القليلة التي أخذناها عندما غادرنا كانت كاميرا صغيرة بحجم 110. بدأت في التقاط الصور معها حتى نفدت شرائط التسجيل. لم أكن أقوم بتطوير الفيلم. كان الغرض بأكمله ببساطة هو استخدام الكاميرا لتأطير الأجزاء الدنيوية من حياة جديدة. مهما كانت الأفكار التي كانت لدي أثناء القيام بذلك، تُركت لتموت ببطء على تلك الإطارات الصغيرة. كنت هناك؛ في البيت مجددا. تحولت العادة الشخصية الصغيرة المتمثلة في “تأطير الأشياء” إلى مهنة. أحببت القيام بذلك، والابتعاد. في كل مكان جديد، وكل بلد يمر برقعة خشنة، كان من السهل أن تبقى منفصلاً وتلتقط الفتات من على سطح الموقف. كانت المشكلة أنها لم تكن حقيقية. أشعر بالملل، سأبدأ في التقاط صور هادئة؛ تجميع فسيفساء من الأشياء التي تبدو غير مهمة، أجزاء من حياة الناس “الطبيعية”، حياة “قبل أن يحدث كل هذا”. يمكنني أن أتذوق فيها بعض فصول الصيف والشتاء التي كانت في غير محله منذ فترة طويلة في منزلي.

في الوقت الذي كان فيه عام 2014 يجر نفسه ببطء من الربيع إلى عذره لفصل الصيف، بدأت في اكتشاف ملذات الرحلات الطويلة المؤلمة، والمجتمع البولندي في غرب لندن، والتأثير المريح الذي تتركه ويتروز على مهاجر فقير.
هناك الآن فتاة بشعر أسود ومجرات على رقبتها. لكن لندن تبدو وكأنها بيت دمى ضخم ومروض. أنا بحاجة إلى الحياة، الناس الذين يقولون ما يقصدونه، وليس ما يعتقدون أن الناس يريدون سماعه. أتبع غرباء عشوائيين و “أسرق” صورًا لهم ، مستعيرًا القليل من حياتهم. ألقي نظرة خاطفة على الأسوار في الساحات الخلفية وغرف المعيشة. مناحي طويلة. أفقد نفسي أكثر فأكثر في المجرات، إطارًا تلو الآخر تذوب المدينة تحتي.
في البيت مجددا.

أعود إلى الجزيرة. سبتمبر هادئ. أجلس مع صديق، هرفوجي. في “غرفة المعيشة” لدينا – بار مارينيرو – تحت نفس أشجار التوت التي كنت أجثم فوقها. في بعض الأحيان يتساءل ، أليس من الأسهل إذا كان ينتمي إلى مكان واحد فقط ، إذا كان لديه إحساس قوي بالخلفية ، مكان غير معروف في المعادلة التي نحلها باستمرار.
في الظل، بين صراخ أطفال المدارس، كل ما يمكنني التفكير فيه هو عدد المرات التي سأعود فيها إلى المنزل مرة أخرى.

كونديرا والمنفى بقلم: سعد محمد رحيم

يقارن كونديرا، في كتابه (لقاء)، ما بين ربيع براغ الذي توِّج بالاجتياح السوفيتي لتشيكسلوفاكيا، وربيع باريس الذي يُعرف بثورة الطلاب 1968. فالأول كان نتيجة تراكمات من الأحداث والضغوطات والأخطاء والقمع بدأت منذ السنوات الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية إذ أصبحت تشيكوسلوفاكيا جزءاً من المعسكر الشيوعي ووجدت نفسها طرفاً في الحرب الباردة.

أما الثاني فكان انفجاراً غير منتظر بتعبير كونديرا الذي يصوِّر الربيعين بالقول: “كان ربيع باريس، الذي بدأ بمحاولة الشبّان أولاً، مطبوعاً بغنائية ثورية، أما ربيع براغ فكان مستوحىً من شكوكية الكبار، ما بعد الثورة”. وهنا يحكي عن ذكرياته عن تلك الأيام المشحونة بالتوتر والآمال.. “آه على سنوات الستينيات العزيزة”. وبنبرة متهكمة يؤكد أن النظام السياسي النموذجي من وجهة نظره هو النظام الديكتاتوري في طور تحللها، والجهاز البوليسي الذي يعاني الخور، فهما يحفزان الروح النقدية الساخرة.. وكانت هذه حالة النظام السياسي والبوليسي في بلاده قبل الثورة والاجتياح السوفيتي.
كان في باريس يومها، تتناوشه الرغبة، أو كان مجبراً على العودة إلى براغ، فيما آخرون من أصدقائه يفكرون بالهجرة أبعد من باريس.. كانت القرارات صعبة ومصيرية. وأخيراً هم ذهبوا إلى منافيهم وهو اضطر للرجوع إلى حيث سيعاني الأمرّين، وتلك قصة أخرى.. المهم أنه سيخوض، بعد سنوات، تجربة ترك موطنه والهجرة.. سيذهب إلى باريس الذي كان ربيعه، مثلما يكتب عنه: “جدالاً فكهاً حول الثقافة الأوربية التي أُعتبرت مضجرة ورسمية ومتحجرة. أما ربيع براغ فكان عرضاً لتلك الثقافة نفسها، التي ظلت لمدة طويلة تختنق تحت غباء الإيديولوجية”. ويضيف كونديرا أن من بين دوافع الثورة في بلاده أيضاً؛ الدفاع عن المسيحية، وعن عدم التدين، وعن الفن الحديث.
مثّل مشكل المنفى لكونديرا هاجساً دائماً.. أن تكون هناك، بعيداً عن موطنك، أو أن تكون في موطنك وتحلم بالمكان الآخر.. حين يكون الوطن سجناً مكفهراً فلابد من أن تشعر، أو تعتقد أن (الحياة هي في مكان آخر/ عنوان رواية له) وليست هنا.. تذهب إلى هناك وقد تسكن لغة أخرى، لغة الأمة التي استقبلتك ووفرت لك الأمان وحظوظاً جديدة للعيش، (وهذا ما حصل معه على وجه التحديد، ورواياته الأخيرة كتبها باللغة الفرنسية).. تنغمس في تيار حياة مغايرة لمدة قد يطول بانتظار أن يتبدل الوضع في موطنك الأصلي. وحين يتحقق حلمك تُفاجأ بأنك لا تقدر على العودة.. يتحول الماضي إلى طيف محض في الذاكرة. فيما يوفِّر المنفى مسرّاته ويكون بديلاً نهائيا، فلا وقت لتجربة ثالثة. والأوان يكون قد فات. وإلا، يتساءل كونديرا: “كيف يمكننا أن نفهم الأمر الصادم المتمثل في أن لا أحد، تقريباً، من الفنانين المهاجرين الكبار سارع بالعودة إلى بلاده، بعد نهاية الشيوعية؟”!.
يخلق المنفى حساسية فريدة من نوعها، مواسية كما يسمّيها، وهو يتحدث عن كاتبة تشيكية منفية هي فيرا لينهارتوفا ترى أن هذه الحساسية اكتست بطابع أخلاقي فحُجب الطابع الحقيقي للمنفي الذي يحوِّل إبعاده إلى إنطلاقة محرِّرة نحو مكان آخر. وقد تكون حالة لينهارتوفا استثنائية بعض الشيء تعكس طبيعتها الشخصية التي تنزع إلى مغادرة المكان الأصلي إلى مكان آخر.. والتي تقول؛ “إنني أتعاطف مع الرحّل، فأنا أشعر أنني لا أملك روح إنسان مقيم. كما أن لي الحق في أن أقول أيضاً بأن منفاي قد أتى ليحقق ما شكّل دائماً أمنيتي الغالية: أن أعيش في مكان آخر”.


والمثقف الذي لا يكون في مكانه، يمكن أن يلوذ بالإبداع الذي يتحوّل إلى موطن بديل.. يغادر عزلته وقلقه وشكوكه ليسكن في فنّه.
يستذكر كونديرا حكاية شاب وشابة يهوديين التقاهما في مرحلة مراهقته بعد الحرب، وكانا قد عاشا سنوات في مدينة تريزين التي حوّلها النازيون إلى غيتو ليهود بينهم العديد من المثقفين.. وحين أبدى كونديرا مشاعر الخجل والضيق وهو يسمع قصتهما غضب الشابان وأفهماه أن “الحياة هناك كانت تحتفظ بكل مقوماتها، بدموعها كما بمزاحها، وبرعبها كما بلطفها”. كانت النازية تعرضهم أمام لجان الصليب الأحمر لتموِّه على جرائمها.. كانت ثمة حرية نسبية للمحبوسين هناك، ولم يرفضوها وهم يعيشون في غرفة انتظار الموت، كما يصفها كونديرا، لكن من غير أوهام.. وتلخصت إجابتهما الواضحة بأن “لإبداعاتهم ولمعارضهم ولحفلاتهم الموسيقية وحالات حبهم، وكل مشهد حياتهم أهمية أعظم، وبقدر لا يُقارن، من المسرحية الجنائزية لسجّانيهم. كان ذاك هو رهانهم”.