ما بين أوليفر ساكس وبن كارسون

قيمة القراءة في تنوّعها؛ إذ أنّ ذلك يحفز الدماغ على الخروج من إطارٍ واحد ولو كان هذا الإطار يشكّل موسوعة عظيمة في علومه. وكان لي وقفاتٌ سابقة مع علم الأعصاب والجراحة؛ بعد أن شاهدت فيلما سينمائيا عن عالم الجراحة، وتحديدًا حياة الجرّاح الشهير بن كارسون، الذي قام الممثل Cuba Good 2009 في إتقان دور الجرّاح.

يعدّ هذا الجراح مثالا رائعا في هذا العلم الدقيق، ونموذجا لا يغفل عنه تاريخ الجراحة، والأهم من ذلك هي حياته التي لولا والدته لما وصل إلى هذه القمة. ولو عدنا قليلا لبداياته لوجدنا أنّه عانى الأمرّين كما حدث لأمّه التي تزوجت في الثالثة عشر من عمرها، ثم انفصلت لاحقا لتبقى وحيدة هي وابنها، تضطر في كلّ هذه الحياة أن تدافع عن مستقبل تؤمن به، وتراه في ابنها.

بالرّغم من مراحل الابن الصعبة، إِلَّا أنّ والدته كانت ملاحظة لذلك، فبعد أن رأت فيه خموله الدراسي وكثرة مشاكله مع زملائه الطلاب، أجبرته على قراءة كتابين كل إسبوع، وعملت ليل نهار؛ حتى توفر لها ما يحتاج، لنرى بن كارسون اليوم وزيرًا للاسكان بعد أن قدّم الكثير في الميدان الصحي.

أوليفر ساكس

ربّما تكون هذه هي نية اليوم من أوّله، وهي التعريج على حياة عالم الأعصاب والطب النفسي الذي أسمته نيويورك تايمز”شاعر الطب المعاصر”. يمتلك. ساكس رصيدا كبيرا من الإنتاجية المعرفية التي أتت من تجاربه الكثيفة مع المرضى وكيفية التعامل مع حالاتهم. ومن المثير في حياة هذا العالم هو حياة الوحدة الاختيارية التي أرادها.

يتحدث أوليفر عن حبّه للكتابة، ويقول في ذلك: “احتفظت باليوميات عندما كنت في الرابعة عشر من عمري، وكان لدي آنذاك حوالي ألف مذكرة، من جميع الاشكال والأحجام، وقد دأبت على المحافظة على دفتر ملاحظات بجانب سريري، للأحلام وأيضا للأفكار الليلية، أيضًا أحاول الحصول على دفتر ملاحظات بجانب المسبح، وعلى ضفاف البحيرة، والبحر، والسباحة مثمرةٌ للغاية للأفكار التي يجب أن أكتبها. لكن نادرا ما أنظر إلى المذكرات التي احتفظت بها للجزء الأكبر من الحياة، وفعلُ الكتابة نفسه يكفي؛ إنه يعمل على توضيح أفكاري ومشاعري، فهو جزء لا يتجزأ من حياتي العقلية، الأفكار المنبثقة تتشكل بفعل الكتابة. يومياتي ليست مكتوبة للآخرين، وعادةً لا أراها، لكنّها شكلٌ خاص لا غنى عنه للتحدث مع النفس.”

يُذكرأن ساكس كان مهتما بالرياضة والجهد البدني طِوال حياته، وعلاوةً على ذلك لم يترك السباحة يومًا واحدًا مُذ أن درّبه والده. أثرى المعرفة بعدة كُتب كان من أهمها بالنسبة لي، كتابه “نزعة إلى الموسيقى

من الكتب الجميلة التي تحكي كيفية تفاعل المرضى باختلاف معاناتهم مع الموسيقى لحظة صدحها، منهم من يتأرجح، ومنهم من يتأفف، ومنهم من تهدأ روحه وتعاد إليه السكينة. والموسيقى هنا؛ هي كلّ شيء له نغمة، البحر وعمق الطبيعة وحفيف الشجر وهدير الماء، وكل ما لصوته اسم.

قد ينسى بعض المرضى أسماؤهم، وأسماء أحبابهم، بيد أن الموسيقى، ذلك الصوت العجيب، يظل عالقا بالدماغ وقد لا يقوى على تجاوزه.

تدوينة لا شيء مهم فيها، سوى المحافظة على لياقتي.

3 thoughts on “ما بين أوليفر ساكس وبن كارسون

  1. تحية طيبة يا عبدالله…

    الفرق بين “بين كارسون” و “أوليفر ساكس” شاسع أدبيا، و علميا، وشخصيا. كارسون سيرته الطبية كجراح مهمة، و لكنه ليس رائدا في مجاله كما يتم تصويره، و قليلا ما يشار له في أدبيات التخصص أو يحال لأبحاثه بين المتخصصين. شارك في نوعيات نادرة من فصل التوائم الملتصقين بالرأس -وأحدها التوأم الإيرانيتين اللتين توفيتا أثناء العملية- و لكنه ليس أشهر من قام بها أو قام بجراحات الاستئصال النصفي للدماغ لعلاج الصرع. مرد شهرة كارسون الحقيقية هي سيرته الذاتية-و ليست الطبية- المنشورة من دور نشر دينية، و المليئة بالأكاذيب، وفي أحسن الأحوال المبالغات. بين كارسون – و الذي أقر بالسرقات الأدبية في كتبه و في بعض بحوثه الجامعية- انتحل سيرة ذاتية تناسب السردية الإيفانجيليكية لكنائس البيض عن السود. كيف أنه كان شاب أسود عنيف، كسول، و خامل عقليا و لكن حصلت له صحوة دينية، فلجأ إلى “يسوع” و انتشله “يسوع” من هذا الانحطاط الذي يلغ فيه السود، و وهبه أنامل موهوبة ( يكفي أن اسم كتابه: يدان موهوبتان!). الكثير من القصص التي أوردها عن نفسه، نفاها من يعرفونه بشكل شخصي. “بين كارسون” شخصية مكروهة بين سود أمريكا، و خصوصا في موطن رأسه ديترويت، لمنافقته التيار الإيفانجيلكي الأبيض، الذي روج لكتبه و دعمه في حملته الانتخابية، و أوصله إلى مقعده الحالي في إدارة ترامب.
    من يشاهد لقاءات “كارسون” و يقارنها بلقاءات “ساكس” يعرف الفرق الهائل أدبيا في لغتهما. و قناعتي أن بين كارسون قد كتب كتبه بمساعدة Ghost writer.
    أحيلك على هذا المقال في الغارديان عن أكاذيب كارسون:
    https://www.theguardian.com/us-news/2015/nov/08/ben-carson-autobiography-questions
    و هذا البورتريه الذي يعلقه كارسون في منزله، و الذي يصور به “المسيح” و كأنه يحتويه، لتفهم حالة الغرور و الدجل التي تستلبه:

    شكرا للتدوينة . و لكن أحببت أن أنوه لك أن فيلم كوبا قود جونيور المبني على سيرة كارسون لا تعكس الحقيقة بدرجة تسمح لوضعه في نفس السياق مع أوليفر ساكس. و شكرا على اتساع صدرك.

    Liked by 1 person

التعليقات مغلقة.