فقط لو يدكِ/بسام حجار 

يجعلني مطمناً، ما يبعد عني خوف الليل ورعشة كائناته الغريبة ،أنني حين أنام أعلم أنني أذهب إلي يديك. لم أعد أضل الطريق إليهما.

الرحلة طويلة وشاقة في المسافة بين النافذة والسرير; كنت أخاف لأنني لم أكن أعلم إلي أين يفضي بي النوم كل ليلة. كنت أعلم أنه ليس موتاً، ليس يقظةً، بل يقظة الموت في خرافاته الملونة.

إلي أين يذهب جسمي في النوم. إلي أين تذهب عيناي. لكنني الآن حين أصل إليه أعلم أنني أجد وسادة لرأسي المتعب، لجسمي الضئيل.

صغيرتان يداك، لكنهما تتسعان لجسمي لشدة ما صار قليلاً، لشدة حضورك في غيابي. لا أخاف الآن أن يأخذني حلم رمادي إلي هاوية لا قاع لها، أعلم أن راحة يديكِ اليمني تفتح لي باباً إلي ضوءٍ قرين، وأن وجهي كحريق، ملمس راحة يديك اليسري. هل كنت غائباً إلي هذا الحد، أعني لا أجد من يدلني إلي نومي.من يمسك بيدي، ويدلني بين صحاري الأرق الطويل. الآن أعلم أنني أغفو حين يخطر لي أن يداً ، لك، تلوح لي بصباح آخر.فأنهض بإشراقتها، حين تفتح لي النافذة وتمسح النوم عن عيني فأعلم أنني، أخيراً، أحيا، لأنها توقظني كل صباح. ليست يدك. مروحةُ الأصابع الناعمة، لمسة خفيفة كالسماء، من التجاعيد التي في جبيني، إلي الورم الداكن تحت عيني. ثم دائرة الفم التي ترسمينها لابتسامة ما، ثم خط العنق حتي أعلي الصدر. أعلم الآن أن وجهي لا يضيع بين الوجوه، أنني، كلما أعود استرد قسماته كأن أصابعك إذ تتلمس الملامح تصنعها وجهاً أعرفه، وجهاً اعتدت عليه بعد أن أخذته المرآة في الصباحات السابقة، بعد أن ألغاه التعب.

يجعلني مطمئناً أن يديك تقتربان. وأن لمستهما تستيقظ الآن في جسمي الذي كنت أحسب أنه ميت. أو أنه استلقي لشهور في نوم مجرد. يمر به كل شيء دون أن يغادر حياده. جسم أصم. جسم أبكم. ثم أتت يداك. رسمت شكلا من طينة الضجر وكنت بعضاً من رقتها. من الحنان الذي يصنعنا ويجعلنا قابلين لأن ننكسر إذ نفتقده. إذ نحيا في غيبته الطويلة. الآن أعرف إلي أين أذهب، حين تضعني الحافلة علي رصيف الازدحام، أو حين تأخذني الغرفة إلي الأفكار السوداء. أعرف ما الذي افعله حين أحسب أن الوقت لا ينقضي، أنام وتأتي يداك في الحلم، أو يأتي الحلم في يديك. لأنني أحسب في نومي أن يديك تحلمان بارتباك من يجعل الطمأنينة لمسا، من يجعل اللمس يقظة الغياب.

هلا وضعت يدك الصغيرة علي قلبي لكي تزول عنه الصحراء. لكي تهرب الذئاب منه وصدي قفارها. لكي يرحل العنكبوت الذي يتنفس في رئتي، لكي يغادرني الخدر الذي ينتاب أشياء الرفوف والأدراج فأحسب أنني منها، لا يخلصني من الغبار إلا صباح الخادمة بأرياشها الاصطناعية ورقعتها البليلة الساحرة. هلا لمست بإصبعك صمت الغرفة، التي تغرقني بهوائها الفاسد وأشباحها التي تتدلي من السقف والجدران. أعرف الآن أنك إِذ تلمسين صخرة صدري يستيقظ نبض فأخرج من وقتي الحجري إلي وقتك الرطب. وأعلم أن يدك هي الخرافة  التي انتظرتها وصدقتها ولشدة ما صدقتها أصبحت تأتي إلي نومي وتسهر عليه. لذلك لم تعد تأخذني حفرة النوم. لم تعد تأكلني ذئاب النوم، حين أسير متعباً إلي سريري وأهبه جسمي، حين أستسلم إلي مجهوله.

لم أعد ابكي حين أراقب المطر يهطل في ليل العالم الذي يتسع وراء النافذة. لم أعد أرتجف خوفاً حين أستيقظ في الليل. وأري أنني وحدي. بتُّ أري الليل ظلاً ليديك، يغمرني ولا أضل فيه والمصابيح ذكري من لمستهما الخفيفة. كأن ضوءاً يتبع إيماءة اليد التي تمسح نومي بماء الدعة. وأعلم أنني بت ابتسم كلما صادفت الوحش الذي كان يفترس في الحديقة حلمي الوحيد. الآن بتُّ أري أن أفلاكاً تتقاطعُ في الخطوط التي تتلاقي في راحتك الزهرية. كأن السماء يرسمها خطان في راحتك، سماء قليلة لكنها تكفي لكي لا يموت العالم من الوحشة، لكي لا تلسعه الأفعي. فقط  لو يدك كانت هناك.

الآن أعرف لماذا كنت أبكي ولماذا الهاوية التي أسقط فيها تشبه صفحة بيضاء وخطّان في أسفلها ونجمة بالحبر الصيني، ومع ذلك تلمع. ولمعانها كان يعذبني. كان يكفي أن ترفعي، بلمسة رخام النوم الثقيل. وأن تأخذني يداك، قليلا بمقدار ما أحيا. كان يكفي أن تمسحي شفتي بطرف سبابتك لكي لا يعذبني النطق.

(باريس-أيلول 1986)